مِن خير خلقِ الله على الأرض ...
قصة نبي الله شعيب عليه السلام ...إن من أبرز ما في قصة نبي الله شعيب عليه السلام :
أن الدين ليس قضية توحيد وألوهية فقط كما يعتقد البعض !!!،
ولكنه كذلك أسلوب لحياة الناس ...
فقد أرسل الله تعالى شعيباً إلى أهل مدين.
فقال تعالى : ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا
قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) هود
نفس الدعوة التي يدعوها كل نبيٍ .. لا تختلف من نبي إلى آخر..
لا تتبدل ولا تتردد. هي أساس العقيدة والدين ..
وبغير هذا الأساس يستحيل أن ينهض بناء بعد تبيين هذا الأساس.. بدأ شعيب عليه السلام في توضيح الأمور الاخرى التي جاءت بها دعوته فقال لهم ... قال تعالى : ( وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ
إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ) (84) هود
بعد قضية التوحيد مباشرةً..
إنتقل النبي إلى قضية المعاملات اليومية.. قضية الأمانة والعدالة.. كان أهل مدين ينقصون المكيال والميزان، ولا يعطون الناس حقهم.. وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد..
كما تمس كمال المروءة والشرف،
وكان أهل مدين يعتبرون بخس الناس أشياءهم نوعاً من أنواع المهارة في البيع والشراء.. ودهاءاً في الأخذ والعطاء.. فجاءهم شعيب عليه السلام وأفهمهم أن هذه دناءة وسرقة..
أفهمهم أنه يخاف عليهم بسببها من عذاب يوم محيط..
انظر إلى تدخل الإسلام الذي بعث به شعيب عليه السلام
في حياة الناس،إلى الحد الذي يرقب فيه عملية البيع والشراء.
قال تعالى : ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(85) )هود
لم يزل شعيب عليه السلام ماضياً في دعوته لا يرده عنها
إعراض المعرضين ولا استهزاء المستهزئين ..
ها هو ذا يكرر نصحه لهم بصورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية..إنه يوصيهم أن يوفوا المكيال والميزان بالقسط بالعدل والحق.. وهو يحذرهم أن يبخسوا الناس أشيائهم وأغراضهم .
لنتدبر معا في التعبير القرآني القائل...
قال تعالى : ( وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ )
كلمة الشيء تطلق على الأشياء المادية والمعنوية..
أي أنها ليست مقصورة على البيع والشراء فقط ،
بل تدخل فيها الأعمال، أو التصرفات الشخصية...
ويعني النص تحريم الظلم، سواءاً كان ظلماً في وزن الفاكهة
أو الخضراوات أوحتى ظلماً في تقييم مجهود الناس وأعمالهم..
ذلك أن ظلم الناس يشيع في جو الحياة مشاعر من الألم واليأس واللامبالاة، وتكون النتيجة أن ينهزم الناس من الداخل،
وتنهار علاقات العمل،وتلحقها القيم ويشيع الاضطراب في الحياة.. ولذلك يستكمل النص تحذيره من الإفساد في الأرض ...
قال تعالى : ( وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ )
العثو هو تعمد الإفساد والقصد إليه فلا تفسدوا في الأرض متعمدين قاصدين (بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ). ما عند الله خير لكم.. (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). بعدها يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه..
ينحي نفسه ويفهمهم أنه لا يملك لهم شيئاً..
فهو عليه السلام ليس موكلاً عليهم ولا حفيظاً عليهم ولا حارساً لهم.. إنما هو رسول يبلغهم رسالات ربهم :
بهذا الأسلوب يُشعر شعيب عليه السلام قومه بأن الأمر جديٌ وخطيرٌ، وثقيل.. إذ بين لهم عاقبة إفسادهم وتركهم أمام العاقبة وحدهم.فما كان جواب قوم شعيب ؟؟؟
كان هو الذي يتكلم.. وكان قومه يستمعون..
هنا توقف هو عن الكلام وتحدث قومه فماذا قالوا ؟؟؟
قال تعالى : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ(87)} هود
كان أهل مدين كفاراً يقطعون السبيل، ويخيفون المارة،
ويعبدون الأيكة.. وهي شجرة وكانوا من أسوأ الناس معاملةً، يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيهما، ويأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص.. انظر بعد هذا كله إلى حوارهم مع شعيب!!!
قال تعالى: ( قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) بهذا التهكم الخفيف والسخرية المندهشة.. واستهوال الأمر..
هل تجرأت في صلاتك يا شعيب ؟؟؟
وأمرتنا أن نترك ما كان يعبد آباؤنا ؟؟؟
ولقد كان آباؤهم يعبدون الأشجار والنباتات..
وصلاة شعيب تأمرهم أن يعبدوا الله وحده..
فأي جرأة منك يا شعيب..؟ أو فلنقل أي جرأة من صلاة شعيب..؟
بهذا المنطق الساخر الهازئ وجه قوم شعيب عليه السلام خطابهم إلى نبيهم.. ثم عادوا يتساءلون بدهشةٍ ساخرة !!!
قال تعالى : ( أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء )
تخيل يا شعيب أن صلاتك تتدخل في إرادتنا،
وطريقة تصرفنا في أموالنا..
فما هي علاقة الإيمان والصلاة بمعاملاتنا المادية؟؟؟
بهذا التساؤل الذي ظنه قوم شعيب قمة في الذكاء..
طرحوا أمامه قضية الإيمان، وأنكروا أن تكون لها علاقة بسلوك الناس وتعاملهم واقتصادهم. هذه المحاولة للتفريق بين الحياة الاقتصادية والإسلام، وقد بعث به كل الأنبياء، وإن اختلفت أسماؤه.. هذه المحاولة قديمة من عمر قوم شعيب عليه السلام .
لقد أنكروا أن يتدخل الدين في حياتهم اليومية،
وسلوكهم واقتصادهم وطريقة إنفاقهم لأموالهم بحرية. إن حرية إنفاق المال أو إهلاكه أو التصرف فيه شيء لا علاقة له بالدين..
هذه حرية الإنسان الشخصية.. وهذا ماله الخاص،
ما الذي أقحم الدين على هذا وذاك ؟؟؟..
هذا هو فهم قوم شعيب عليه السلام للإسلام الذي جاء به شعيب ، وهو لا يختلف كثيراً أو قليلاً عن فهم عديد من الأقوام في زماننا الذي نعيش فيه. ما للإسلام وسلوك الإنسان الشخصي وحياتهم الاقتصادية وأسلوب الإنتاج وطرق التوزيع وتصرف الناس في أموالهم كما يشاءون..؟ ما للإسلام وحياتنا اليومية..؟
ثم يعودون إلى السخرية منه والاستهزاء بدعوته فيقولون ...
قال تعالى : ( إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ )
أي لو كنت حليماً رشيداً لما قلت ما تقول أدرك شعيب عليه السلام
أن قومه يسخرون منه لاستبعادهم تدخل الدين في الحياة اليومية.. ولذلك تلطف معهم تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه، وتجاوز سخريتهم لا يباليها، ولا يتوقف عندها، ولا يناقشها..
تجاوز السخرية إلى الجد.. أفهمهم أنه على بينة من ربه.
إنه نبي يعلم وهو لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه،
إنه لا ينهاهم عن شيء ليحقق لنفسه نفعا منه،
إنه لا ينصحهم بالأمانة ليخلوا له السوق فيستفيد من التلاعب..
إنه لا يفعل شيئا من ذلك.. إنما هو نبي..
وها هو ذا يلخص لهم كل دعوات الأنبياء هذا التلخيص المعجز
قال تعالى : ( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ )
إن ما يريده هو الإصلاح.. هذه هي دعوات الأنبياء في مضمونها الحقيقي وعمقها البعيد.. إنهم مصلحون أساسا، مصلحون للعقول، والقلوب، والحياة العامة، والحياة الخاصة.
بعد أن بين شعيب عليه السلام لقومه أساس دعوته وما يجب عليهم الالتزام به، ورأى منهم الاستكبار، حاول إيقاظ مشاعرهم بتذكيرهم بمصير من قبلهم من الأمم، وكيف دمرهم الله بأمر منه.
فذكرهم قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط.
وأراهم أن سبيل النجاة هو العودة لله تائبين مستغفرين،
فالمولى غفور رحيم. تحدي وتهديد القوم لشعيب عليه السلام
لكن قوم شعيب عليه السلام أعرضوا عنه قائلين...
قال تعالى :
( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا )هود
إنه ضعيف بمقياسهم. ضعيف لأن الفقراء والمساكيهم فقط اتبعوه،
أما عليّة القوم فاستكبروا وأصروا على طغيانهم.
إنه مقياس بشري خاطئ، فالقوة بيد الله، والله مع أنبياءه.
ويستمر الكفرة في تهديهم قائلين...
قال تعالى :{وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ(91)} هود
لولا أهلك وقومك ومن يتبعك لحفرنا لك حفرة وقتلناك ضرباً بالحجارة. نرى أنه عندما أقام شعيب عليه السلام الحجة على قومه، غيروا أسلوبهم، فتحولوا من السخرية إلى التهديد.
لولا أهلك وقومك ومن يتبعك لحفرنا لك حفرة وقتلناك ضرباً بالحجارة. نرى أنه عندما أقام شعيب عليه السلام الحجة على قومه، غيروا أسلوبهم، فتحولوا من السخرية إلى التهديد.
وأظهروا حقيقة كرههم له. لكن شعيب تلطف معهم..
تجاوز عن إساءتهم إليه وسألهم سؤالا كان هدفه إيقاظ عقولهم...
قال تعالى : ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ )
يا لسذاجة هؤلاء. إنهم يسيئون تقدير حقيقة القوى التي تتحكم في الوجود.. إن الله هو وحده العزيز.. والمفروض أن يدركوا ذلك.. المفروض ألا يقيم الإنسان وزناً في الوجود لغير الله..
ولا يخشى في الوجود غير الله.. ولا يعمل حسابا في الوجود لقوة غير الله .. إن الله هو القاهر فوق عباده.
ويبدو أن قوم شعيب عليه السلام ضاقوا ذرعاً بشعيب.
فاجتمع رؤساء قومه. ودخلوا مرحلة جديدة من التهديد..
هددوه أولا بالقتل، وهاهم أولاء يهددونه بالطرد من قريتهم..
خيروه بين التشريد، والعودة إلى ديانتهم وملتهم التي تعبد الأشجار والجمادات.. وأفهمهم شعيب أن مسألة عودته في ملّتهم
مسألة لا يمكن حتى التفكير بها فكيف بهم يسألونه تنفيذها.
ولقد نجاه الله من ملتهم، فكيف يعود إليها ؟؟؟
أنه هو الذي يدعوهم إلى ملة التوحيد..
فكيف يدعونه إلى الشرك والكفر؟؟؟ ثم أين تكافؤ الفرص؟؟؟
إنه يدعوهم برفقٍ ولين وحب.. وهم يهددونه بالقوة.
واستمر الصراع بين قوم شعيب ونبيهم..
حمل الدعوة ضده الرؤساء والكبراء والحكام..
وبدا واضحاً أن لا أمل فيهم.. لقد أعرضوا عن الله..
أداروا ظهورهم لله. فنفض شعيب عليه السلام يديه منهم.
لقد هجروا الله، وكذبوا نبيه، واتهموه بأنه مسحور وكاذب..
فليعمل كل واحد.. ولينتظروا جميعاً أمر الله.
هلاك قوم شعيب:
وانتقل الصراع إلى تحد من لون جديد. راحوا يطالبونه بأن يسقط عليهم كسفاً من السماء إن كان من الصادقين..
راحوا يسألونه عن عذاب الله. أين هو.؟ وكيف هو.؟ ولماذا تأخر.؟ سخروا منه.. وانتظر شعيب أمر الله. أوحى الله إليه أن يخرج المؤمنين ويخرج معهم من القرية.. وخرج شعيب..
وجاء أمره تعالى: { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (94) (هود} هي صيحةً واحدة.. صوت جاءهم من غمامة أظلتهم..
ولعلهم فرحوا بما تصوروا أنها تحمله من المطر..
ثم فوجئوا أنهم أمام عذاب عظيم ليوم عظيم.. انتهى الأمر.
أدركتهم صيحة جبارة جعلت كل واحد فيهم يجثم على وجهه في مكانه الذي كان فيه في داره.. صعقت الصيحة كل مخلوق حي..
لم يستطع أن يتحرك أو يجري أو يختبئ أو ينقذ نفسه.
فسبحان الله القوي القاهر فوق عباده.
تعليقات
إرسال تعليق