القائمة الرئيسية

الصفحات

مكتبة الإسكندرية الكنز المفقود

في أعماق التاريخ، وفي زمنٍ كانت فيه المعرفة أعظم من السيوف، وأثمن من الكنوز، وُلدت مكتبة الإسكندرية. لم تكن مجرد مبنى من الحجر، بل كانت حلمًا بشريًا يتخطى حدود الزمان والمكان. تخيّل مدينة بأكملها، لكن قلبها لا ينبض بالأسواق ولا بالقصور، بل بالعلم… قلبه مكتبة، وروحه مخطوطة، ونبضه فكرة.

يُقال إن المكتبة ضمّت مئات الآلاف من المخطوطات. بعض الروايات تقول نصف مليون، وأخرى تتحدث عن سبعمئة ألف لفافة بردي، كل واحدة منها تحمل سرًا أو نظرية أو تجربة عاشها عقل من عقول الماضي. من الهند جاء علم الحساب والفلك، ومن مصر القديمة أسرار الطب والتحنيط، ومن اليونان فلسفة أرسطو وأفلاطون، ومن بابل وبلاد فارس علوم الفلك والهندسة. وكأن العالم كله اجتمع هناك، على شاطئ المتوسط، ليترك إرثه في مكان واحد.



تصوّر أن تدخل المكتبة، فتجد قاعات لا تنتهي، رفوفًا تمتد كأنها شرايين الكون، ومخطوطات كأنها نجوم مضاءة. كان العلماء يتبادلون الأفكار، يترجمون الكتب من لغات شتى، يناقشون، يكتبون، ويحلمون بمستقبلٍ يليق بالعقل الإنساني. لم تكن المكتبة مجرد مكان لحفظ الكتب، بل كانت مصنعًا لإنتاج المعرفة، ورشة للعقول، ملتقىً لأحلام البشرية. لكن هذه الأحلام لم تصمد أمام قسوة التاريخ. بين الحروب والحرائق والاضطرابات السياسية، تعرضت المكتبة للضياع. لا أحد يجزم متى كان الانطفاء الأخير: هل كان في عهد يوليوس قيصر عندما اشتعلت النيران؟ أم في زمن تدهور الإمبراطورية الرومانية؟ أم لاحقًا عندما غابت شمس الإسكندرية عن سماء الحضارة؟ المؤكد أن ألسنة اللهب أكلت القلوب قبل أن تأكل الورق، وأن العالم خسر ذاكرة لا تُقدّر بثمن.


تخيّل لو بقيت تلك المخطوطات! كم نظرية في الفيزياء كان يمكن أن تغيّر مسار العلم؟ كم علاج طبي كان سينقذ أرواحًا لم تولد بعد؟ كم فكرة فلسفية كانت ستعيد تشكيل الوعي الإنساني؟ إن فقدان مكتبة الإسكندرية لم يكن مجرد خسارة لمبنى، بل كان انقطاع شريانٍ من شرايين الحضارة. ومع ذلك، فإن المفارقة العجيبة أن المكتبة لم تمت. صحيح أن جدرانها تهاوت، ولفائفها احترقت، لكن ذكراها بقيت حيّة. بقيت رمزًا عالميًا لقيمة العلم وأهمية حفظه. كل مرة نذكر اسمها، نشعر أن ثمة وصية خفية تخرج من رمادها: احفظوا العلم قبل أن يحترق، انشروا المعرفة قبل أن تضيع، وكونوا أوفياء لذاكرة الإنسانية.

اليوم، نحن نعيش زمنًا مختلفًا، تُخزّن فيه المعلومات في حواسيب عملاقة وسُحب رقمية. ومع ذلك، يظل الخطر قائمًا: ماذا لو انقطعت الكهرباء؟ ماذا لو تلاشت البيانات؟ ماذا لو ضاع جهد قرونٍ في لحظة؟ سؤال يذكرنا أن حفظ المعرفة لا يعني مجرد تخزينها، بل نشرها وتوريثها وتكرارها عبر الأجيال. إن مكتبة الإسكندرية تعلمنا أن المعرفة ميراث لا يخص جيلًا واحدًا. وأن الأمة التي لا تحفظ علمها، لا تحفظ نفسها. لقد احترقت المكتبة، لكنها أضاءت لنا درسًا خالدًا: لا تجعلوا العلم رهينة الزمان، ولا تتركوا الأفكار حبيسة الأوراق، بل اصنعوا ذاكرةً لا يحرقها شيء.


تعليقات

التنقل السريع